كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد يجاب عن هذا بأنها أثرت في نقصان ثوابه ولابد، فإنه لو اشتغل في زمن إيقاعها بالحسنات لكان أرفع لدرجته وأعظم لثوابه، وإذا كان كذلك فقد ترجح القول الأول بأن الحسنات لما غلبت السيئات ضعف تأْثير المغلوب المرجوح وصار الحكم للغالب دونه لاستهلاكه في جنبه كما يستهلك يسير النجاسة في الماءِ الكثير والماءُ إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، والله أعلم.
الطبقة الثانية عشر: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فتقابل أثراهما فتقاوما فمنعتهم حسناتهم المساوية من دخول النار وسيئاتهم المساوية من دخول الجنة.
فهؤلاء هم أهل أهل الأعراف، لم يفضل لأحدهم حسنة يستحق بها الرحمة من ربه، ولم يفضل عليه سيئة يستحق بها العذاب.
وقد وصف الله سبحانه وتعالى أهل هذه الطبقة في سورة الأعراف- بعد أن ذكر دخول أهل النار وتلاعنهم فيها ومخاطبة أتباعهم لرؤسائهم وردهم عليهم، ثم مناداة أهل الجنة أهل النار- فقال تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ وَنَادوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمَ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 46- 47]، فقوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} [الأعراف: 46] أي بين أهل الجنة والنار حجاب، قيل: هو السور الذي يضرب بينهم له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب: باطنه الذي يلى المؤمنين فيه الرحمة، وظاهره الذي يلى الكفار من جهتهالعذاب.
الطبقة الثالثة عشرة: طبقة أهل المحنة والبلية، نعوذ بالله. وإن كانت آخرتهم إلى عفو وخير، وهم قوم مسلمون خفت موازينهم ورجحت سيئاتهم على حسناتهم فغلبتها السيئات، فهذه الطبقة التي اختلفت فيها أَقاويل الناس وكثر فيها خوضهم وتشعبت مذاهبهم وتشتَتَتْ آرآوهم، فطائفة كفرتهم، وأوجبت لهم الخلود في النار، وهذا مذهب أكثر الخوارج، بل يكفرون من هو أحسن حالًا منهم وهو مرتكب الكبيرة الذي لم يتب منها ولو استغرقتها حسناته. وطائفة أوجبت لهم الخلود في النار ولم تطلق عليهم اسم الكفر، بل سموهم منافقين.
وهذا المذهب ينسب إلى البكرية أتباع بكر ابن أُخت عبد الواحد.
وطائفة نزلتهم منزلة بين منزلة الكفار والمؤمنين، فجعلوا أقسام الخلق ثلاثة: مؤمنين، وكفارًا، وقسمًا لا مؤمنين ولا كفارًا بل بينهما، وأوجبت لهم الخلود في النار، وهذا هو الرأى الذي عليه أهل الاعتزال، وهو أحد أُصولهم الخمسة التي هي قواعد مذهبهم وهى: التوحيد الذي مضمونه جحد صفات الخالق ونعوت كماله والتعطيل المحض، والعدل الذي مضمونه نفى عموم قدرة الله وأنه لا قدرة له على أفعال الحيوانات بل هي خارجة عن ملكه وخلقه وقدرته، وأنه يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد، فإنه لا يقدر أن يهدى ضالًا ولا أن يضل مهتديًا ولا يجعل المصلى مصليًا ولا الذاكر ذاكرًا ولا الطائف طائقًا، تعالى الله عن إفكهم وشركهم علوًا كبيرًا. والمنزلة بين المنزلتين التي مضمونها إيجاب [الخلود في النار] للمسلم المبالغ في طاعة ربه الذي أفنى عمره في عبادته وطاعته ومات مصرًا على كبيرة واحدة، تعالى الله عما نسبوه إليه من ذلك وجل عن هذا الافتراءِ. والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذي مضمونه الخروج على أئمة الجور بالسيف، وخلع اليد من طاعتهم، ومفارقة جماعة المسلمين.
والأصل الخامس: النبوة مع أنهم لم يوفوها حقها، بل هضموها غاية الهضم من وجوه كثيرة ليس هذا موضعها.
والمقصود أن مذهبهم تخليد هذه الطبقة في النار، وإن لم يسموهم كفارًا، فوافقوا الخوارج في الحكم وخالفوهم في الاسم.
ولهذا تسمى هذه المسألة من مسائل الأسماء والأحكام. فهذه ثلاث فرق أوجبت لهذه الطائفة الخلود في النار وقالت المرجئة على اختلاف آرائهم: لا يدرى ما يفعل الله بهم فيجوز أن يعذبهم كلهم، وأن يعفو عنهم كلهم، وأن يعذب بعضهم ويعفو عن بعضهم، غير أنهم لا يخلد أحد منهم في النار فجوزوا أن يلحق بعضهم بمن ترجحت حسناته على سيئاته، بل جوزوا أن يرفع عليه في الدرجة. فهم موكلون عندهم إلى محض المشيئة لا يدرى ما يفعل الله بهم، بل يرجأُ أمرهم إلى الله وحكمه، وهذا قول كثير من المتكلمين والفقهاء والصوفية وغيرهم.
فهذه الأقوال هي التي يعرفها أكثر الناس، ولا يحكى أهل الكلام غيرها، وقول الصحابة والتابعين وأئمة الحديث لا يعرفونه ولا يحكونه وهو الذي ذكرناه عن ابن عباس وحذيفة وابن مسعود رضى الله عنهم أن من ترجحت سيئاته بواحدة دخل النار.
وهؤلاء هم القسم الذين جاءَت فيهم الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم يدخلون النار فيكونون فيها على مقدار أعمالهم: فمنهم من تأْخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه ويلبثون فيها على قدر أعمالهم، ثم يخرجون منها، فينبتون على أنهار الجنة: فيفيض عليهم أهل الجنة من الماءِ حتى تنبت أجسادهم، ثم يدخلون الجنة. وهم الطبقة الذين يخرجون من النار بشفاعة الشافعين، وهم الذين يأْمر الله سيد الشفعاءِ مرارًا أن يخرجهم من النار بما معهم من الإيمان.
وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يكونون فيها على قدر أعمالهم مع قوله تعالى: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] [النحل: 32، الزخرف 72، الطور: 19 السجدة: 14، المرسلات: 43].
الطبقة الرابعة عشرة: قوم لا طاعة لهم ولا معصية، ولا كفر ولا إيمان.
وهؤلاء أصناف: منهم من لم تبلغه الدعوة بحال ولا سمع لها بخبر، ومنهم المجنون الذي لا يعقل شيئًا ولا يميز، ومنهم الأصم الذي لا يسمع شيئًا أبدًا، ومنهم أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميزوا شيئًا.
فاختلفت الأُمة في حكم هذه الطبقة اختلافًا كثيرًا.
الطبقة الخامسة عشرة: طبقة الزنادقة، وهم قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله [ورسوله]. وهؤلاء المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النار، قال تعالى: {إِنَّ المُنَافِقِينَ في الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145]، فالكفار المجاهرون بكفرهم أخف، وهم فوقهم في دركات النار. لأن الطائفتين اشتركتا في الكفر ومعاداة الله ورسله وزاد المنافقون عليهم بالكذب والنفاق، وبلية المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين، ولهذا قال تعالى في حقهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4]، ومثل هذا اللفظ يقتضى الحصر، أي لا عدو إلا هم، ولكن لم يرد هاهنا [حصر العداوة فيهم وأنهم لا عدو للمسلمين سواهم بل هذا] من إثبات الأولوية والأحقية لهم في هذا الوصف، وأنه لا يتوهم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهرًا وموالاتهم [لهم] ومخالطتهم إياهم أنهم ليسوا بأعدائهم، بل هم أحق بالعدواة ممن باينهم في الدار، ونصب لهم العداوة وجاهرهم بها. فإن ضرر هؤلاءِ المخالطين لهم المعاشرين لهم- وهم في الباطن على خلاف دينهم- أشد عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم، لأن الحرب مع أولئك ساعة أو أيامًا ثم ينقضى ويعقبه النصر والظفر، وهؤلاء معهم في الديار والمنازل صباحًا ومساءً، يدلون العدو على عوراتهم ويتربصون بهم الدوائر ولا يمكنهم مناجزتهم، فهم أحق بالعداوة من المباين المجاهر، فلهذا قيل: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4]، لا على معنى أنه لا عدو لكم سواهم، بل على معنى أنهم أحق بأن يكونوا لكم عدوًا من الكفار المجاهرين.
الطبقة السادسة عشرة: رؤساء الكفر وأئمته، ودعاته الذين كفروا وصدوا عباد الله عن الإيمان وعن الدخول في دينه رغبة ورهبة فهؤلاء عذابهم مضاعف، ولهم عذابان: عذاب بالكفر، وعذاب بصد الناس عن الدخول في الإيمان. قال الله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ} [النحل: 88] فأحد العذابين بكفرهم، والعذاب الآخر بصدهم عن سبيل الله. وقد استقرت حكمة الله وعدله أن يجعل على الداعى إلى الضلال مثل آثام من اتبعه واستجاب له، ولا ريب أن عذاب هذا يتضاعف ويتزايد بحسب من اتبعه وضل به.
وهذا النوع في الأشقياء مقابل دعاة الهدى في السعداءِ، فأُولئك يتضاعف ثوابهم وتعلو درجاتهم بحسب من اتبعهم واهتدى بهم، وهؤلاء عكسهم، ولهذا كان فرعون وقومه في أشد العذاب، قال تعالى في حقهم: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوَّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أدْخِلُوا آلِ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، وهذا تنبيه على أن فرعون نفسه في الأشد من ذلك، لأنهم إنما دخلوا أشد العذاب تبعًا له، فإنه هو الذي استخفهم فأطاعوه، وغرهم فاتبعوه. ولهذا يكون يوم القيامة إمامهم وفرطهم في هذا الورد، قال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ} [هود: 98].
والمقصود: أنهم استحقوا أشد العذاب لغلظ كفرهم، وصدهم عن سبيل الله وعقوبتهم من آمن بالله.
فليس عذاب الرؤساء في النار كعذاب أتباعهم، ولهذا كان في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل: «فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين».
والصحيح في اللفظ أنهم الأتباع ولهذا كان عدو الله إبليس أشد أهل النار عذابًا، وهو أول من يكسى حلة من النار، لأنه إمام كل كفر وشرك وشر.
فما عصى الله إلا على يديه وبسببه، ثم الأَمثل فالأمثل من نوابه في الأرض ودعاته. ولا ريب أن الكفر يتفاوت، فكفر أغلظ من كفر، كما أن الإيمان يتفاوت فإيمان أفضل من إيمان.
فكما أن المؤمنين ليسوا في درجة واحدة، بل هم درجات عند الله، فكذلك الكفار ليسوا في طبقة واحدة ودرك واحد بل النار دركات كما أن الجنة درجات. ولا يظلم الله من خلقه أحدًا. وهو الغنى الحميد.
الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبعًا لهم يقولون: إنا وجدنا آباءَنا على أُمة، ولنا أُسوة بهم. ومع هذا فهم متاركون لأهل الإسلام غير محاربين لهم، كنساءِ المحاربين وخدمهم وأتباعهم الذين لم ينصبوا أنفسهم لنا نصب له أُولئك أنفسهم من السعى في إطفاءِ نور الله وهدم دينه وإخماد كلماته، بل هم بمنزلة الدواب.
وقد اتفقت الأُمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالًا مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاءِ بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة، وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث في الإسلام.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»، فأخبر أن أبويه ينقلانه عن الفطرة إلى اليهودية والنصرانية والمجوسية، ولم يعتبر في ذلك غير المربى والمنشإِ على ما عليه الأبوان.
وصح عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم: «إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة»، وهذا المقلد ليس بمسلم، وهو عاقل مكلف، والعاقل المكلف لا يخرج عن الإسلام أو الكفر. وأما من لم تبلغه الدعوة فليس بمكلف في تلك الحال، وهو بمنزلة الأطفال والمجانين.
الطبقة الثامنة عشرة: طبقة الجن، وقد اتفق المسلمون على أن منهم المؤمن والكافر والبر والفاجر. قال تعالى إخبارًا عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الصّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقِ قِدَدًا} [الجن: 11] قال مجاهد: يعنون مسلمين وكافرين.